الله لطيف بعباده
المقدمة
الحمد لله ذي الفضل والجود، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فما سمعت أذن، ولا رأت عين ألطف بالعباد من رب العباد، ترى الأمور العظام والمصائب الشداد، فإذا انجلى الأمر فإذا الخير والأجر.
الله لطيف بعباده؛ خلقهم، ورزقهم، وهداهم، وأسكن من شاء منهم جنته، رحمته سبقت غضبه، وفضله سبق عقابه.
هذا الكتيب... إلى من استوحشت به الطرق، وافترقت به المسالك، وأظلته سحابة حزن، وترك له الزمن جرحًا ينزف.. الله لطيف بعباده.
الزوج والزوجة
أسرعت ذلك اليوم لإنجاز عملها رغبة في حضور محاضرة نسائية أعلن عنها، تلقيها إحدى الداعيات المعروفات بسلاسة الطرح، وضرب الأمثلة الواقعية وكان العنوان جذابًا فهو عن «السحر والشعوذة».
ولما جلست على كرسي في القاعة المكتظة، إذا بها تجد اللهفة والشوق من جميع الحاضرات لهذا الموضوع العقدي المهم، الذي بدأ يستشري ويظهر في كثير من المجتمعات لقلة الدين ولوجود العاملات في المنازل وكثرة السفر للخارج، مع ضعف في التوكل على الله عز وجل، وعدم المحافظة على تحصين النفس بالأذكار المشروعة وغيرها.
بدأت المحاضرة باسم الله تعالى والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ثم عرفت السحر وحكمه وأنواعه وجزاء من فعله أو قام به، أو ذهب للسحرة والعرافين امتثالاً لقول النبي (: «من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد (»().
ثم أسهبت في تعريف جانب يهم النساء، فقالت عن العطف، والصرف للأزواج: بأنه من أنواع السحر، ولو كان الدافع للعمل هذا حسن النية، بحيث تبرر المرأة عمل الشيطان حتى يحبها زوجها ويستقر حالها، ثم أردفت: السعادة لا تجلب بمعصية الله عز وجل.
وعندما رأت المحاضرة عيون الكثيرات نحوها قالت بيقين: وغالب النساء اللاتي يعملن السحر لأزواجهن يتم طلاقهن بعد حين من الزمن طال أم قصر، وهذه النتيجة هي من آثار معصية الله ورسوله، ومعاملتها بضد ما أرادت من السحر بأن شتت الله شملها، وفرق بينها وبين زوجها، وهذا من عقاب الدنيا فكيف بعقاب الآخرة؟!
انتهت المحاضرة، وتوالت الأسئلة لكنها سرحت بفكرها إلى من تعرف أنها آذت زوجها، وجعلت له نوعًا من سحر العطف والصرف... وتذكرت حياتها في أول الأمر وكيف آلت إلى الفراق والشتات، بعد عشرة هنية وحياة طيبة، فطلقت الزوجة وتشتت الأبناء وكرهها الزوج، وعندما قال للزوج أحد الناصحين ممن لم يعرفوا حقيقة ما جرى: اجعلها خادمة لأبنائك، وتزوج بزوجة ثانية وثالثة إن أردت، قال في نفسه وهو محق في قوله: كيف أطمئن لامرأة تعمل هذا المنكر؟ وأين لي الأمان في حياتي معها؟! ثم هل هذه المرأة مؤتمنة على تربية صغاري وهي تعصي الله عز وجل بأمر كفري؟!
طلقها، وكلما تقدم لفتاة أصابها أمر عجيب، فتتوالى أنفاسها ويضيق صدرها، ويتصبب عرقها، وتبكي ولا تنام فإذا قالت: لا، زال ما بها، وهكذا تقدم لعشر فتيات وعشرين والحالة واحدة! هم وغم، واضطراب حتى ينتهي الأمر.
حتى صرح له أب لفتاة تقدم لها أن في الأمر شيء وليست الأحوال طبيعية إطلاقًا أكثر من قراءة القرآن والأذكار المشروعة، واغتسل بالسدر وتحرى مظان الإجابة... ومرت السنة الأولى، والثانية، فإذا باللطيف بعباده يجبر كسره، ويجمع شمله، ويرزقه زوجة صوامة قوامة، أنسته شقاء السنوات الماضية، وكرب الليالي المظلمة، وفي كل يوم يحمد الله عز وجل أنها الزوجة التي يأمن معها على عيش الدنيا ويأمل أن يجمعه الله في الفردوس الأعلى.
وقفة:
قال ابن تيمية: «العوارض والمحن هي الحر والبرد، فإذا علم العبد أنه لابد منها، لم يغضب لورودهما ولم يغتم لذلك، ولم يحزن»().
وقال ابن الجوزي: لو أن ملكًا قال لرجل فقير: كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار؛ لأحب كثرة الضرب، لا لأنه لا يؤلم ولكن لما يرجو من عاقبته وإن أنكأه الضرب.
فلذات الأكباد
تزوجت في عز شبابها إلى شاب لا يعرفونه، ولا يعرفون أهله، ولا طبائعه وأخلاقه، فكانت النتيجة بعد سنوات الفراق المر بعد أن أنجبت طفلاً واحدًا، ولم تقف المصائب عند الفراق فحسب، فإنها لم تهنأ بعيش ولم يدعها في شأنها بل أذاقها الزوج صنوفًا من الغيبة والبهتان والاستهزاء، ثم ألحقها بإيذاء عجيب، ألا وهو حرمانها من رؤية صغيرها ومشاهدته والجلوس معه، وحرمها الشهور الطويلة لا ترى وجهه ولا تسمع صوته.
فكانت تسارع إذا اشتد بها الشوق وغلبها البكاء إلى مدرسة الصغير لتراه وهو خارج من أسوار المدرسة... تلقي عليه نظرة من بعد.. عندها يزداد بكاؤها، وهي تراه ولا تستطيع أن تضمه إلى صدرها، حتى تفتت كبدها، ولامس فقده جرحًا ينزف في سويداء قلبها! لكن الله لطيف بعباده ألهمها الصبر والسلوان على فقده، وقال لها والدها وكان رجلاً عاقلاً: إن طالت بك الأيام ليأتين بسيارته إلى بابك.
سار الزمن بطيئًا وهي تحاول نسيانه فلا تستطيع، وترسل له من يتتبع أخباره، وكيف ينام ويصحو؟ ومن يأتي بحاجته؟ ومن ينظف ثوبه ويغسله؟ بل ومن يوقظه للصلاة.. انهكها السؤال وأضناها الفراق، حتى أصابها الهم والحزن، فإذا بها تنام وصورته في مخيلتها، وتصحو وهي على أمل بعيد، أن تراه! وبين الحين والآخر تتذكر حال نبي من الأنبياء الله وقد فقد ابنه! لقد فقد يعقوب –عليه السلام- ابنه سنوات طويلة، واستمر به الحزن حتى سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمن وكثرة الأحزان! حتى فرج الله شدته ورد إليه ابنه في خير حال وأحسن مآل.
وبعد سنوات من الفراق والحرمان، أراد الله أن يكون كلام والدها حقيقة واقعة، وأن يجمع الله بينها وبين صغيرها، فإذا بالابن رجلاً يقود السيارة، ويأتي ليقف بالباب، ويقبل رأس أمه لينسيها تلك الأيام الطويلة، ببر حسن وصلة مباركة، مع ما رزقه الله من صلاح وحسن سمت! وقالت له: يا بني تضرعت لك بالدعاء سنوات طويلة، حتى رحم الله ضعفي وجبري كسري، وجمعني وإياك فإذا بي أراك على أحسن حال، وأجمل صورة فالله لطيف بعباده!.
وفقة:
قال الحسن: كان منذ خروج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ودموعه تجري على خديه، ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره، وما على الأرض يومئذ أكرم على الله تعالى منه.
حفظ كتاب الله عز وجل
كأي فتاة شابة في مقتبل العمر تتطلع إلى زوج وأبناء وأسرة صغيرة تنمو مع الأيام لكن الله عز جل بحكمته صرف عنها الخطاب بعد تخرجها من الجامعة، فلم يطرق بابها أحد، فأشارت عليها الناصحة وقالت: حتى يتسنى لك الأمر وتحصلي على الوظيفة التحقي بدار تحفيظ القرآن الكريم، فوقع الأمر في قلبها، والتحقت بالدار طالبة مجدة، وحافظة نشيطة. وخلال ثلاث سنوات كان لها أعظم خير وأبرك علم، ألا وهو حفظ كتاب الله الكريم كاملاً، وكانت في فترة الثلاث سنوات ترى زميلاتها، وقريباتها يتخطفهن الأزواج، لكن الله عز وجل ألقى في نفسها رغبة وحرصًا على إتمام حفظ كتاب الله عز وجل، وكلما زاد حفظها لكتاب الله، زاد حرصها أن تتمه حفظًا عن ظهر قلب، وكانت تدعو الله عز وجل في سرها وجهرها بعد مضي السنة الثانية والثالثة، أن لا يتقدم إليها خاطب يشغلها عن حفظ كتاب الله عز وجل، تريد إتمام المدة الباقية لتكون حافظة متفرغة لذلك، دون صوارف.
وفي حف التخرج كان لها موعد مع ما يسر الله لها من زوج، فقد رأتها إحدى الحاضرات في ذلك الحفل، وكانت بداية طريق الزواج، مرت الأيام والأسابيع فإذا بها عروس حافظة لكتاب الله، حاملة له في صدرها لكنها تأملت لطف الله عز وجل بها، وتأخر زواجها برهة من الزمن حتى أتمت حفظ القرآن كاملاً.
قال في مختصر منهاج القاصدين:
من أنواع الصبر: الصبر على الطاعة: وهو الثبات على أحكام الكتاب والسنة، وينقسم إلى ثلاثة أحوال:
1- حال قبل العبادة: وهو تصحيح النية والإخلاص والصبر عن شوائب الرياء.
2- حال في نفس العبادة: وهي أن لا يغفل عن الله تعلى في أثناء العبادة، ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن.
3- حال بعد الفراغ من العبادة: وهو الصبر عن إفشائه، والتظاهر به، لأجل الرياء والسمعة، وعن كل ما يبطل عمله، فمن لم يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى أبطلها.
الأبناء
أمر تربية الأبناء عظيم ولهذا قال النبي (: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته..» فخافت هذه الأم من يوم الحساب وتذكر تجزاء التفريط في الأمانة مع كثرة الفتن وانتشارها وظهورها!!! فحرصت بكل ما تملك على حسن تربية أبنائها وجعلت لهم نصيبًا من الدعاء في سجودها، وقيامها، وجلوسها، وتكبدت المشقة في سبيل رعايتهم وتوجيههم والصبر على ذلك سنوات طويلة، وهي تقوم بهذا الأمر محتسبة صابرة، وكانت تتطلع إلى السماء وتشكو إلى الله صعوبة التربية مع كثرة أبنائها وتقارب أعمارهم.
لكنها بعد اعتمادها على الله عز وجل وثقتها به، جعلت من بيتها واحة إيمانية ليس فيها للفتن مكان، بل كانت المربي والموجه، ولم تجعل للشاشة وما يعرض فيها مدخلاً على قلوبهم، وكانت ترفض الذهاب لدعوة من معارفها ممن لديهم شاشة تلفاز، حتى تحافظ على صغارها! ولطالما تمنت تلبية الدعوة، لكنها تمتنع إتمامًا لنهجها في تربية الصغار.
وكان لهذا الجهد ثمرة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً فأكرمها الله بأبناء نجباء، حفظوا كتاب الله عز وجل، وعندما يؤذن المؤذن تسمع صوت أحدهم إمامًا يقتدي به المصلون فتسر وتفرح وتسأل الله الثبات!
وإذا أقبل الليل فرحت لأنه يجمع أبناءها حولها... في حين إذا أقبل الليل على غيرها من الأمهات بدأ القلق والهم، والغم يطرق قلبها: أين يذهب ابنها المراهق في ظلمة الليل؟!
حمدت الله عز وجل، وشكرته على نعمه العظيمة.
وقفة:
قال بعض السلف: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الغم بالعيال.
التحول الكبير
شاب في مقتبل العمر، أنعم الله عليه بالصحة والعافية، وكان والده ثريًا موسر الحال، يملك الدور والقصور، ولديه شركات تجارية ناجحة، فنشأ في بيت مدلل، لا يرد له طلب، لكنه –مع الأسف- لاه ساه غافل، لا يعرف الصلاة إلا بين الحين والآخر، ولما شب عن الطوق تخاطفه رفقاء السوء... منهم من يحبه لجرأته في التحدث عن علاقاته العاطفية، ومنهم من يخطب وده للمال الذي ينفقه! لم يفكر يومًا أن هذا المال بهذه الحياة هو طريق إلى النار والعياذ بالله!
في مطلع كل صيف يسافر شهورًا طويلة، ولا تسل عما يفعل من المعاصي! بل هل هو ترك امرًا لم يعص الله عز وجل فيه؟! لقد كان هذا المال معينًا له على الفساد والانحلال!
ومرت السنوات وهو على هذه الحال، حتى قارب عمره الخامسة والعشرين؛ وكانت الإجازة الصيفية على الأبواب وقد رتب أمر السفر،واستعد للفساد والإفساد بكل ما أوتي من قوة وحيلة، ومال وجاه، وصحة ونشاط! لكن الله عز وجل لطيفًا بعباده أمهله على كثرة ذنوبه، وأمد في أجله مع مبارزته له بالمعاصي لطف به حتى كان ذاك اليوم وتلك الليلة، ساق الله له الخير سوقًا، وأنقذه من جهله وغفلته، فإذا الخير يقدم مع سيارة مسرعة لتلقي بسيارته خارج الطريق ويمضي في السيارة قرابة الساعتين في غيبوبة لا يعلم عنه أحد ولما أفاق بعد أسبوع فإذا به يفاجأ لقد انتقل من قصره الواسع إلى غرفة في المستشفى، وتغيرت حاله، تكسرت أسنانه، وجرح وجهه،وتشوهت ملامحه، وأقعدت قدماه، لقد أصيب بالشلل!
لقد كانت صدمة قوية، غيرت مجرى حياته وأثرت فيه تأثيرًا عجيبًا، بدأ يسترجع أيامه ولياليه، فرأى أن صحته ذهبت في الحرام، ونشاطه كان في الجري وراء الشهوات.. اليوم أقعده الله عز وجل ليراجع نفسه ويفيق من غفوته، وقال بلسان حاله: الله لطيف بعباده يعصونه ويمهلهم وينكرون نعمته ويمدهم ويتم نعمته بأمر كهذا ليعودوا إليه! حزن أن تكون صحته تراق في شهوة، ونشاطه في معصية، وتذكر بعد شهور من لزوم الاستقامة حال يوسف –عليه السلام- وكيف أتته المعصية وردها وكيف رضي بالسجن ولا يقارف المعصية!
قال ابن القيم نقلاً عن شيخه ابن تيمية:
«كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخواته له في الجب وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربة للنفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شابًا وداعية الشباب إليها قوية، وعزبًا ليس معه ما يعوضه ويرد شهوته، وغريبًا والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحي منه بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا والمملوك أيضًا ليس وازعه كوازع الحر، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، وتوعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارًا، وإيثارًا لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ماليس من كسبه»؟!
تأمل الشاب في حاله، فقال: الحمد لله الذي رد علي ديني، وأعانني على التوبة! اليوم عرفت أن فتنة الغنى والصحة والشباب كانت لي نقمة فلم أصرفها في الخير حتى لطف الله بي، وردني إليه ردًا جميلاً.
وقفة:
قال الأستاذ مصطفى الرافعي: ومثل الابتلاء كقشر البيضة سجن لما فيها... تحفظ ما بداخلها حتى يتشكل ويخرج بعد ذلك خلقًا آخر، وكذلك المبتلى يكون ابتلاؤه سجنًا له ويشكل وهو فيه حتى يخرج من الابتلاء وهو خلق آخر.
المصائب والمحن
وقفة:
قال ابن القيم –رحمه الله-: وتمام الكلام في مسائل المصائب والمحن يتبين بأصول نافعة جامعة:
الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور دون ما يصيب الكافرين.
الثاني: أن ما يصيب المؤمنين مقرون بالرضا والاحتساب فإن فاتهم فمعوَّلهم على الصبر وعلى الاحتساب، وذلك يخفف البلاء بلا ريب.
الثالث: أن المؤمن محمول عنه بحسب طاعته، وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان في قلبه، بحيث لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبد المؤمن.
الرابع: أن محبة الله إذا تمكنت في القلب كان أذى المحب في رضا محبوبه مستحلى غير مسخوط.
الخامس: أن ما يصيب الكافر، والفاجر، من العز وتوابعه مقرون بضده.
السادس: أن ابتلاء الله لعبده المؤمن كالدواء يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه.
السابع: أن ذلك من الأمور اللازمة للبشر.
الثامن: أن لله في ذلك حكمًا عظيمة معروفة.
التاسع: أن ذلك من الابتلاء، والامتحان الذي يظهر به الصادق من الكاذب.
العاشر: أن الإنسان مدني بالطبع ولابد من الاختلاط، واختلاف التصورات، والإرادات التي تنشأ عنها كثير من الأكدار، والمؤمن مأمور أن يقوم بوظيفته فيها، وذلك مما يهون المصيبة.
الحادي عشر: أن البلاء الذي يصيب العبد لا يخرج عن أربعة أقسام: إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب، والناس مشتركون في حصولها، فغير المؤمن التقي يلقى منها أعظم مما يلقى المؤمن كما هو مشاهد.
الداعية
منذن أن اهتديت ورزقني الله الاستقامة، وأنا أحرص على الدعوة إلى الله، وهداية الناس إلى طريق الحق.
فحولي أقارب وأحباب، وأصحاب وزملاء.. وكل منهم يحتاج إلى دعوة.. وحبب الله إلي أمر الدعوة، فما وجدت طريقًا إلا دخلته، وما رأيت مسلكًا إلا سرت فيه، جعلت جل وقتي في الدعوة... وأسر بين حين وآخر وأنا أرى ثمرة دعوتي سريعة، فأحمد الله عز وجل وأعزم على المضي في طريق الأنبياء والمرسلين.
دعوت والديَّ حتى قرت عيني بهما، ثم دعوت زوجتي حتى أصبحت معينة لي...
بعضهم تجده مغرقًا في أوحال المعصية، وآخرون مقصرون في الأوامر الشرعية.
يخيل لي أن النار تجري وتلحق بالعاصي، وهو يهرب فأشفق عليه وأحرص على أن لا تمسه... فأجري لألحق به ممسكًا به، حتى لا يقع في الهاوية.. وربما لحقني أذى أو سلط أحد لسانه علي ورماني من كنانته بسهام... وكلها أحتملها، ففي جنب الله تهون المصائب، جميع من دعوتهم مباشرة كانوا مسلمين، في بعضهم بدع ومعاص ظاهرة، وآخرون تركوا السنن والمستحبات فأضحت لديهم متروكة منسية.. واكتسبت خبرة عملية في الدعوة وأصبحت أعرف من أين أبدأ، وكيف أحاور وألفت أذني أصوات الشكر والدعاء، وصمت عن سماع البذاءة والإهانة، والتهديد وكلما فترت نفسي وتراخت همتي تذكرت صبر الرسول (، وما لاقاه من عنت قومه، وما أصابه من مشقة ونصب وعناء... عندها تهون نفسي وتضيء معالمي سيرة الرسول ( ففي صبره منهاج دعوة، وطريق حياة ومعلم تربية.
وإن تكالب الضعف وتردت النفس سارعت إلى التضرع والدعاء بأن يجعلني الله من الدعاة وأن يثبتني على دينه.
وأقمت أمام عيني أنني ناصح، وليس من شروط النصيحة القبول. ولذا مع مرور الأيام وطنت نفسي وألزمتها الصبر، وجعلت زادي الاحتساب، وأنعم به من زاد.
ولم يكن الدعاء والشكر، بل وحتى الثناء يقدم أو يؤخر في نفسي شيئًا فأنا أنتظر الجزاء في ذلك اليوم العظيم..
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ( [عبس: 34].
شاء الله أن أتنقل في أعمال كثيرة، وهذه أفادتني ولله الحمد في كثرة الزملاء وتنوعهم.
ولكن محطتي الأخيرة التي شاء الله أن أتوقف فيها، هي مستشفى طبي، وصرح حضاري، يعج بمختلف الجنسيات، وتجتمع فيه مختلف الديانات، فهذا مسلم، وذاك نصراني وآخر بوذي، وتنوع كهذا ألقى علي عبئًا كبيرًا وهمًا ثقيلاً، فمن رؤية الكفار صباحًا ومساء، وشيوع بعض المنكرات كما أن قلة حصيلتي في اللغات الأجنبية وعدم توفر الكتيبات والنشرات بغير العربية كلها عوائق اجتممعت في وجهي، وكأنني أتيت لأقيد نفسي وأتوقف عن نشاطي.
ولكن لم أستسلم أو أتوقف ، بل فكرت من أين أبدأ وماذا أقول؟! أسئلة تزاحمت في رأسي تبحث عن مخرج لها.
في وسط الموج الهادر من الأفكار عينت بجوار طبيب فلبيني الجنسية نصراني الديانة.
فبدأت أتقرب إليه طمعًا في إسلامه، وكان لطيف المعشر ونشأت بيني وبينه زمالة مشتركة فأصبح يحب الجلوس معي ويقبل حديثي.
ولكن فجأة عندما بدأت أحدثه عن الإسلام تحول إلى وحش كاسر، وانقلبت المودة إلى كره ظاهر، وغضب شديد، ولكن كنت آمل خيرًا، فوطنت الصبر وأنخت الاحتساب ليكون سلوتي.. وبدأت أتحاشى الحديث عن الإسلام مباشرة ولكن نفسي أبت ذلك!!
بعد شهور طويلة، نمت ليلة بعد تفكير طويل، وأرق وكآبة.
وفي الصباح قررت أن أحدثه عن الإسلام في أقرب فرصة أجدها مناسبة حتى تبرأ ذمتي، ويذهب الحرج عن نفسي.. حتى وإن كانت النتائج عكسية، أليس شباب النصارى يطرقون بيوت المسلمين في أوروبا وأمريكا، وتغلق الأبواب مرة وأخرى، ولكنهم يعاودون الاتصال حتى يهددهم صاحب المنزل بالاتصال على الشرطة إن عادوا إليه، فمالي إذا أحجم وأتراجع؟!
في صباح يوم مشرق جميل وجدت فرصة، فأطلقت لساني يحدثه عن الإسلام فما أن أحس بانطلاقي في الحديث حتى غضب غضبة عجيبة، وقام من مكانه بانفعال، وبصق في وجهي بوقاحة..
نازعتني العزة بالإثم وصرخ الكبرياء في نفسي، ولكن سيرة الرسول ( تخالط شغاف قلبي، صبر على أذى المشركين رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يوحده.
اجتمعت علي الهموم والغموم، وأجلب الشيطان علي بخيله ورجله، إنها بصقة في وجه مسلم!!! وممن؟!
إنها من كافر.. ولماذا؟ لأنك دعوته إلى الإسلام.
تحرك هاجس الانتقام وتحركت يدي، وسبقها لساني أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وأعدت يدي إلى وجهي تزيل طعنة جهاد في سبيل الله، أدعوه جل وعلا أن يتقبلها مني..
كآبة الحزن ارتسمت على وجهي، ضحى ذلك اليوم ومساءه، وخشيت أن أحدث أحدًا من أحبتي ولكني رأيت أن السكوت خير من أن يحدث أمر لا تحمد عقباه.. واستغفرت ربي ودعوته في تلك الليلة دعاء حارًا أسقط ردائي من كتفي وخررت لله ساجدًا.
مضت الأيام وحبل المودة مقطوع، والجفوة قائمة بيننا. وفي تلك الأثناء كانت الهداية تخطو نحو بيت هذا الطبيب وذلك عن طريق زوجته التي تعمل في مكان آخر.. مرت ستة أشهر بعدها علمت بالخبر المفرح أن زوجته أسلمت.. ودعوت لها ولمن سعى في هدايتها... وخالطني بعض التشفي من ذلك الطبيب، هاهي في بيتك!! ولكني طأطأت رأسي حياء وخجلاً من ربي... مرت الأيام وأنا أترقب هذا الطبيب، ولكنها أيام طويلة باعدت فيها الأعمال بيننا حتى أتاني ذات يوم هاشًا باشًا نحوي فعلمت أن في الأمر تبدلاً، فإذا الأمر أكبر من ذلك إذ به يبشرني بإسلامه على يد زوجته، عانقته وأنا لا أخفي دمعة تسيل على خدي، فإذا به يزيلها بيده ويقبل جبيني، ثم بكى.
توطدت العلاقة بيننا وأصبح من أقرب الناس إلي ولكنه بين حين وآخر يذكرني بعتاب شديد.. لماذا تركتني بعد تلك الحادثة؟ ألست تدعو إلى الله حتى وإن فعلت ما فعلت؟ بعد سنوات سافر إلى بلاده، وأنا سافرت كذلك وفرقت بيننا الأوطان، ولكني أطمع في اجتماع لا فرقة بعده في جنات عدن.
وقفة: من المصائب استطالة الناس وكثرة القيل والقال، ولابد هنا من الصبر، ولذلك بوب البخاري (باب الصبر على الأذى) وقول الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ( [الزمر: 10]، ثم أورد حديثًا عن أبي موسى عن النبي ( قال: «ليس أحد -أو ليس شيء- أصبر على الأذى من الله، إنهم ليدعون له ولدًا وإنه ليعافيهم ويرزقهم».
وذكر البخاري في صحيحه أن رسول الله ( قسم قسمة كبعض ما كان يقسم، فقال رجل من الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، فلما أخبر النبي ( بقوله قال: «قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر».
رحمة الله
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: إن العبد ليهم بالأمر في التجارة، والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه فإن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فظل يتطير بقوله: سبني فلان، وأهانني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل»().
وقفة:
قال ابن القيم في صيد الخاطر: ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورة، ويتجنب المحظورات فحسب، إنما المؤمن هو الكامل الإيمان، لا يختلج في قلبه اعتراض ولا يساكن نفسه فيما يجري وسوسة وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه، وقوي تسليمه.
وقد يدعو فلا يرى للإجابة أثرًا، وسره لا يتغير لأنه يعلم أنه مملوك وله مالك يتصرف بمقتضى إرادته، فإن اختلج في قلبه اعتراض خرج من مقام العبودية إلى مقام المناظرة كما جرى لإبليس.
والإيمان القوي يبين أثره عند قوة البلاء فقد يرى مثل يحيى بن زكريا، يتسلط عليه فاجر، فيأمر بذبحه فيذبح وربما اختلج في الطبع أن يقول: فهل رد عنه من جعله نبيًا؟
وكذلك كل تسلط من الكفار على الأنبياء والمؤمنين وما وقع رد عنهم فإن هجس بالفكر أن القدرة تعجز عن الرد عنهم كان ذلك كفرًا، وإن علم أن القدرة متمكنة من الرد وما ردت وأن الله قد يجيع المؤمنين ويشبع الكفار، ويعافي العصاة ويمرض المتقين، لم يبق إلا التسليم للمالك وإن أمض وأرمض.
وقد ذهب يوسف بن يعقوب عليهما السلام، فبكى يعقوب ثمانين سنة، ثم لم ييأس فلما ذهب ابنه الآخر قال: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا( [يوسف: 83].
وقد دعا موسى -عليه السلام- على فرعون، فأجيب بعد أربعين سنة.
وكان يذبح الأنبياء، ولا ترده القدرة القديمة العظيمة وصلب السحرة، وقطع أيديهم وكم من بلية نزلت بمعظم القدر، فما زاده ذلك إلا تسليمًا ورضى فهناك يبين معنى قوله: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ( [المائدة: 119].
وههنا يظهر قدر قوة الإيمان، لا في ركعات.
قال الحسن البصري: استوى الناس في العافية فإذا نزل البلاء تباينوا.
غرفة الأحزان()
قصتي ليست من نسيج الخيال، ولكنها واقع عشته يومًا من الأيام.
لقد أهيل التراب على طفلتي التي قاربت العام والأول من عمرها، بعد أن قرر الأطباء أن لديها فشلاً كلويًا عانت منه ما عانت، وأقامت في المستشفيات ما أقامت، حتى أصبح جسدها النحيل كأنه كتلة لحم، وعندما نزل بها الموت احتسبتها عند الله عزوجل.
ومضت السنون حيث أنعم الله تعالى علي بمولودة جميلة، ولكن التاريخ يعيد نفسه، وإذا بي أرى أن بطن ابنتي بدأ ينتفخ شيئًا فشيئًا، حتى جاء ذلك اليوم الذي اشتدت فيه الحمى عليها –وكانت قد تجاوزت العام الأول من عمرها- أخذتها إلى الطبيب، لقد كنت أتخيل أي داء قد نزل بها، إلا الفشل الكلوي لم يخطر لي على بال.
وهناك كانت الصدمة، كانت الحيرة، لقد كانت نتيجة التحليل مشابهة لتحاليل أختها المتوفاة، حملتها إلى المستشفى لأن الأمر أصبح بحاجة إلى مستشفى، وليس إلى عيادة خاصة.
وكان الدخول.. لقد مضت أول ليلة في ذلك المستشفى وأنا في ذهول!!
ثم تم تحويلها إلى مستشفى متخصص، وبدأ الأطباء يعطونها الكثير من العلاج لعله يكون مجرد التهاب وينتهي أمره، وطال البقاء في المستشفى، تدخل حالات، وتخرج حالات هذا مصاب بربو.. وتلك مصابة بتشنجات، وذاك بحمى وأرى النساء يتضجرن وينزعجن من إصابة أبنائهن بهذه الأمراض –والتي يمكن علاجها بمجرد دواء- .. وهي مع ذلك تترقب الخروج ما بين يوم وآخر، أما أنا فلم أعد أفكر في الخروج.
تم نقلي وطفلتي إلى غرفة انفرادية لعدم وجود مناعة لديها لما تتعاطاه من أدوية.
عشت في هذه الغرفة وحيدة مع طفلتي أعاني الألم والحزن والقلق، عشت فيها مع المحاليل والإبر مع البكاء والعويل، والصراخ الذي تطلقه طفلتي الغالية تشكو لي ما يحدث لها من وخز الإبر ومرارة الدواء.. ولكن ليس بيدي حيلة.
لقد ازدادت حالتها الصحية سوءًا.. وازداد حجم الماء في جسدها حتى أصبحت ذات منظر يثير الحزن والأسى.
تضرعت إلى العلي القدير، أن ييسر نقلها إلى مستشفى متخصص، وفعلاً تم ولله الحمد.
وهناك كان الفشل قد تمكن من الكلية بكاملها، وانحبس البول انحباسا شديدًا وخاف الأطباء على قلبها من وجود الماء... ذلك الطوفان المدمر، وكان لابد من التدخل السريع.
وهنا تبدأ معاناة من نوع آخر، معاناة الغسيل البروتيني وما أدراك ما الغسيل البروتيني؟!
حملت طفلتي إلى غرفة العمليات.. وهناك عمل لها الأطباء ثقب في منطقة البطن، أدخل من خلاله أنبوب يتصل بغشاء البطن الداخلي، وطرفه الآخر يتصل بكيس بلاستيك يدخل من خلاله السائل البروتيني في بطنها ثم يخرج ساعات طويلة عندها حسب الحالة ويستبدل الكيس بكيس آخر جديد.
وكتب لنا الخروج.. لك الحمد يا رب، آن الأوان للرحيل إلى بيتي، وأطفالي وأهلي وأحبابي، طالما اشتقت إليهم، لقد طالت غربتي وطال بعدي.
لقد تنقلت من مكة إلى جدة إلى الرياض، لم أكن أصدق أنني سأخرج من ذلك السجن حيث الأوهام والأفكار المفزعة سأحمل ابنتي إلى بيتي.
لقد صرف لها الدواء ولكن دواءها ليس مجرد شراب، أو كبسولات أوحقن، بل كان مجموعة من الكراتين التي تحمل السائل البروتيني.
عادت ابنتي ولكنها ليست كبقية الأطفال كما ذكرت، بل أصبحت طفلة تعيش في هذه الحياة بحدود، وقيود ثقيلة، فلا يسمح لها بشرب الماء إلا بمقدار قليل جدًا لأن ما تشربه من ماء لن يجد له مخرجًا فالبول قد أنحبس، وانحبست معه السموم داخل جسدها.
ومع حرارة الصيف يهرع الناس إلى الماء المثلج، إلى الآيس كريم، والمرطبات أما ابنتي فتشرب قطرات من الماء لا تكاد تروي عطشها المستمر، إنها تصرخ كلما رأت كأسًا ولو فارغًا... تقف أمام الثلاجة وتبكي وتتوسل.. والحرارة تشتد، والظمأ يتزايد وبكاؤها ينادي: لم تحرموني من الماء؟؟ أيستطيع أحدكم أن يصبر عن الماء ساعة؟؟
ومن الصعب جدًا حرمان طفلة صغيرة بهذه السن من الماء، لقد بلغ بي الأمر أن أخفيت الثلاجة داخل إحدى الغرف، ولكن ما لبثت أن عرفت ذلك، فأصبحت تلازم باب الغرفة وتبكي، وتصرخ، حتى أننا أصبحنا نتسلل إلى الغرفة خفية حتى لا ترانا، ومع ذلك كانت كثيرًا ما تفطن إلينا، وتلحق بنا وتبكي ولكني أخرجها دون أن تشرب شيئًا، وأحيانًا لا أستطيع تحمل بكائها، وحرمانها فأعطيها قليلاً من الماء... ولكن لا يكاد يروي عطشها، فتستمر في الصراخ.
في ليلة من الليالي، ازداد بكاؤها، ولا أعلم لماذا حان موعد الغسيل وعندما أخرجت السائل وجدت أن لونه قد اختلف ، ولم يعد صافيًا كما كان، أصبت بالهلع بكت.. شكوت إلى الله حالي في تلك الليلة، من الصعب الذهاب إلى المستشفى في منتصف الليل.
أدخلتها غرفة الغسيل، وهي تصرخ وتبكي، كررت الغسيل لكن دون جدوى بت ليلتي تلك وأنا أتألم بآلام طفلتي، وفي الصباح الباكر ذهبنا بها إلى المستشفى واستمر علاجها طويلاً، حتى بدأت تستجيب نوعًا ما للشفاء وتم الخروج ولكن لم نبق في البيت سوى سبعة عشر يومًا حتى عاودها الالتهاب ثانيًا، وعدنا إلى المستشفى ومكثنا هنا ما شاء الله، حتى جاء موعدنا مع الطبيب، فذهبنا وكم كانت سعادتي عندما قال الطبيب: إن الالتهاب قد شفي، وعدت إلى داري وأنا سعيدة أن أطلق سراحنا.
واستمرت معاناتي مع ابنتي وإن معاناتها ليست مع الغسيل وآلامه، بل كانت تحتاج إلى كمية كبيرة من العلاج، لابد من أخذها من مسحوق لابد أن تأخذ منه كمية كبيرة، وإلا ارتفع لديها (البوتاسيوم) وارتفاعه يعد خطرًا على القلب، وكانت تكره شربه بالفم، بل تصرخ كثيرًا عند شربه، لذلك كنت أعطيها إياه عن طريق الشرج وهذه أيضًا صعبة جدًا لعدم وجود حقنة شرجية خاصة بها، بل كنت أستخدم حقنة ذات حجم كبير.
وكانت صرخاتها تتعالى مما يزيد آلامي، وأحزاني بل وأشد من ذلك أنه لابد من إعطائها حقنة تحت الجلد، حملتها إلى ممرضة في نفس الحي، رحبت بنا -جزاها الله خيرًا- وتأثرت كثيرًا بمنظر طفلتي المحزن.. ولكن أيضًا وجدت صعوبة في الاستمرار معها لشدة إرهاقي مع ابنتي داخل البيت، من غسيل وعلاج، وغيار للثقب الذي في بطنها (الذي يخرج منه الأنبوب) فاضطررت أن أتعلم منها كيفية ضرب الحقن، ولم يطل ذلك الأمر، لأنني تعودت على رؤيته كثيرًا في المستشفيات.
كان الموقف صعبًا... لا أطيق أن أتحمل بكاءها، لقد أحسست أن الأمر صعب، أمسكها من حولي وهي تصرخ وتبكي... وكلما غرزت الإبرة تحت الجلد أشعر وكأنما أغرزها في قلبي.
وذات مرة بدأ السائل ينحبس قليلاً قليلاً، وظهر في سرتها انتفاخ، وأراد الله أن يكون في ذلك الوقت لها موعد في الرياض، حملتها إلى غرفة الكشف وفحصها الأطباء، حاولوا إخراج السائل بالإبر، فلعله انسداد بسيط، ولكن دون جدوى، وكنت أخشى أن يقول لي الطبيب لابد من الدخول أو عملية... فلقد كرهت الإقامة في المستشفيات، ولم أعد أطيق ذلك، ولكن قرر الأطباء أن معها فتاق في السرة، ولابد من إعادة عملية الأنبوب ليستبدل بأنبوب جديد، ولعدم وجود سرير طلب منا العودة من الغد.
حملت ابنتي أنا وأبي وذهبنا إلى الفندق.. وهناك وجدت نفسي أبكي بحرقة، وشدة لا أتخيل أن أعود مرة أخرى إلى المستشفى.
ماذا ينتظر ابنتي هناك؟ ماذا؟ احتضنتها عانقتها، لقد سئمت ذلك المكان، سئمت القيود الثقيلة، الحمد لله على كل حال.
جاء موعد غسيلها في الصباح ولم يكن لدينا في الفندق الحامل لأضع عليه كيس الغسيل ولا يوجد المكرويف لتسخينه، ولكن أحضر لي أبي ماء ساخنًا، وأمسك هو بالكيس، وأخذ ينتظر نزوله في بطنها، وذلك في العادة يستغرق دقيقتين، إلى ثلاث دقائق فقط، ولكن طال الانتظار فالسائل يتسرب ببطء شديد ومرت عشر دقائق... ربع الساعة، نصف الساعة، ساعة كاملة، ونحن نتناوب حمل الكيس حتى أصبنا بالإرهاق، فقمنا بتعليقه في النافذة الموجودة في الغرفة... ولكن الوقت يمر دون فائدة لقد توقف خروج السائل فحمدت الله تعالى أن هذا الحدث قد حدث ونحن على موعد مع المستشفى.
كانت الساعة السابعة صباحًا تقريبًا، والموعد مع الطبيب الساعة العاشرة، لم أتحمل الانتظار حملتها وغسيلها الذي لم يكتمل بعد، وتم الدخول وحملت الطفلة مباشرة إلى الطوارئ، ثم إلى غرفة العمليات، وقام الموظف المختص بحملها إلى غرفة العمليات، حيث وضعها في سرير كالقفص الحديدي، وذهب بها من أمامي وهي تنظر إلي ولسان حالها يقول لي: سأعود يا أماه... سأعود!!! غابت عن ناظري وطلبت الممرضة مني الذهاب إلى الغرفة المخصصة لي ولطفلتي.
وطالت ساعات الانتظار والهواجس تعصف بي من كل مكان، ولكني استودعتها الله الذي لا تضيع ودائعه.
وإذا بالهاتف يرن فإذا الممرضة تقول: إن ابنتك خرجت من غرفة العمليات، وستبقى في العناية المركزة فترة من الزمن.. وجاء موعد الزيارة، ولكني شعرت بالخوف. لم أعد أطيق أن أراها في ذلك المكان، ترددت في الزيارة ومرت ساعة... وساعتان.. ولا أستطيع تحمل منظرها وهي بين الأجهزة.
ولكن جاءت بعض الأخوات لزيارتي، وطلبت منهن الذهاب معي حيث ترقد ابنتي..
دخلنا غرفة العناية المركزة، وهناك رأيت كثيرًا من الأطفال المرضى وكنت أسير بينهم في خوف وقلق.. أود أن يقع بصري عليها.. شفقة عليها... ها هي جالسة... لا لا إنها ليست ابنتي، وفي آخر الغرفة كانت ترقد حبيبتي، نظرت إليها من بعيد لم أستطع الاقتراب منها، لأن السرير مغلق وكانت الممرضة تعمل لها الغسيل.. عدت إلى غرفتي.. وبقيت أنتظر حتى عادت إلي طفلتي الحبيبة واستمر الغسيل.
ولكن فوجنا بفشل الغسيل عند إخراج السوائل... لم يعد جسمها يستجيب للغسيل البروتيني حاول الأطباء لكن دون جدوى، وبدأ الأطباء يفكرون في تبديل الغسيل البروتيني إلى غسيل دم.
إن قرار أن يستبدل غسيلها قرار خطير... ثم إن غسيل الدم ليس أمرًا هينًا.
إن المريض يتصل بالجهاز الذي يغسل دمه أربع ساعات تقريبًا كل ثمان وعشرين ساعة... إنه رهينة وأسير لهذا الجهاز ناهيك عما يعانيه المريض من آلام ورعشة شديدة وحالات إغماء أحيانًا إن كان الدم لديه ضعيفًا، فكيف بالله لطفلة لم تتجاوز العامين من عمرها أن تتحمل هذا الألم؟!
إن قلبي يتمزق من الخوف والقلق، من ذلك المصير المؤلم، ولكن الأطباء قاموا بإعطائها فرصة للاستمرار في الغسيل البروتيني فطلب منا الخروج والمراجعة بعد أسبوعين.
وعدنا إلى دارنا بعد غيبة عنها... واستمر الغسيل، ولكنه فشل وكنت أكثف لها الغسيل حتى تصل في اليوم إلى سبع مرات، حتى أصبح في آخر أيامها كل ساعتين، واستمر انحباس السوائل وزدادت لهفتها على الماء، والغسيل لا يجدي نفعًا، وكثر بكاؤها وعناؤها..
حتى جاء ذلك اليوم الذي لن أنساه ما حييت، يوم الجمعة لاحظت عليها ضيقًا في التنفس، وضعت لها الأكسجين دون جدوى، ثم حملتها إلى المستشفى وهناك رأيت علامات الموت ظاهرة عليها تجمع الأطباء حولها في الطوارئ.. وضعوا لها الأكسجين، والمحاليل والإبر.. والأدوية.. لكن هيهات هيهات.
لقد عانت الطفلة من سكرات الموت معاناة شديدة، جحظت فيها العينان، وبرزت إلى الخارج بشكل مخيف ومفزع، حتى أنني لم أعد أرى لها جفونًا، بل اختفت تمامًا تحت بروز العينين، واسود اللسان والشفتان، وانقطع منها الصوت والأنين، وبدأت كأنما تبحث عن الهواء بحركات قوية ومتقطعة..
اقتربت منها، وقد أحرقتني دموع الفراق..
ودعوت الله وتضرعت إليه أن يخفف عنها ما أرى من شدة...
أخرجت من الغرفة إلى الخارج.. وأنا لا أزال أتضرع وأبكي بين يدي الله تعالى أن ينهي هذه المأساة على خير، وإذا بالعصر يؤذن له ومعه رفعت دعائي للعلي العظيم، لابنتي الحبيبة ولكن صغيرتي في تلك اللحظة لم تكن في الطوارئ، بل نقلت إلى مستشفى أخرى دون أن أشعر بها... وفي تلك اللحظة لحق بي أبي، وأمي، وحملاني إلى هناك حيث تعالج ابنتي السكرة والنزع...
وما إن وصلت.. حتى... فارقت الحياة.. ماتت... ماتت...
هذا ما قاله لي أخي عندما سألته كيف هي؟ فقال: ماتت... قلت: أين هي؟ فأشار إلى حيث ترقد.
فدخلت عليها، فإذا بها ترقد في براءتها المعهودة، الحمد لله، ارتاحت من الألم ارتاحت من الغسيل المر، اقتربت منها فقبلتها... اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها.
ودعت حبيبتي... وداعًا... وداعًا يا فلذة كبدي... وداعًا يا ثمرة فؤادي.
عدت إلى البيت أخرجت ملابسها جميعًا من البيت... نظرت إلى غرفة الأحزان.. غرفة الغسيل... وهذه ألعابها مترامية وهذا دولاب ملابسها، وهناك تلعب وتترنم.. جاءت الساعة الخامسة.. موعد الغسيل.. لقد تأخرت آه.. لم تعد موجودة.. اللهم أجرني في مصيبتي.
الله لطيف بعباده.. الآن أكتب قصتي هذه وأنا أهز سرير ابنتي الصغيرة والتي تبلغ من العمر سبع سنوات.
فاللهم لك الحمد على ما أخذت وما أعطيت.
تأملات في القصة
ليس الغرض من سياق هذه القصة إدخال الحزن على قلبك أيها القارئ، إنما الغرض منها تذكيرك بنعم الله عليك... إنك تشرب الماء متى تشاء، وبالقدر الذي تريد، لا يمنعك من ذلك الشيء.. ثم إنك تتخلص منه ولا تفكر كيف خلصك الله تعالى منه، بينما حبس خروجه من الآخرين..
عجبت لك يا ابن آدم.. تشرب بدون حساب.. وتخرج بدون حساب.. فأين شكرك لمسدي هذه النعم؟! أتتمتع بكل هذه النعم، ثم تبخل أن تقابل الجميل بالعرفان؟! أتبخل على نفسك بالذلة والطاعة بين يديه تعالى؟!
إن أقل حق لهذه النعمة فقط (من بين بقية النعم) أن تكون صوامًا قوامًا مطيعًا لله..
ولكن هناك فئة من البشر أنعم الله تعالى عليها بالنعم الجزيلة.. وهي تتمرغ في أوحال الرذائل والمعاصي.
تناسوا أن أنفاسهم في هذه الحياة معدودة... وخطواتهم معدودة وبقاءهم في هذه الحياة بقدر معلوم، ولكل أجل كتاب.
أيها العاصي تذكر أن من أعدق عليك كل هذه النعمة قادر على سلبها منك فأدِّ حقها عليك.
إن من عبر هذه القصة: أن البلاء مهما طال ومهما عظُم فلابد للغيوم أن تنجلي، وكلما أحلولك الظلام واشتد فلابد أن تبدأ تباشير الصباح، وهنا اهمس في أذن كل مبتلى: صبرًا في ذات الله صبرًا، إن بعد البلاء خير عظيم، إنك الآن قريب من الله تعالى، ضارع إليه تناجيه في كل حين تتلمس منه الفرج في كل لحظة لقد أصبحت لا تأنس ولا تتلذذ إلا بالخلوة بين يدي خالقك.
وقد يكون البلاء أحيانًا نذيرًا للعبد من الاستمرار في ضلاله وعصيانه، فكم من البشر من يعيش في هذه الدنيا وهو لا يعي من أمر الآخرة شيئًا؟ لهو... عبث... عصيان... بعد عن الله تعالى.. مثل هذه الفئة لا يجدي معها التذكير والنصح.. إنما لا بد من هزة عظيمة وحدث عظيم يعيده إلى رشده، وقد لاحظنا الكثيرين ممن عادوا إلى الله وكتابه بعد أن نزل بهم البلاء، والكرب العظيم فعلاً أنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
قال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( [السجدة: 21].
لقد كانت ثقتي في الله كبيرة جدًا.. فما رجوته ودعوته إلا وجدت منه مددًا وعونًا.
نعم لم يستجب لي في شفاء ابنتي في الدنيا، لكنه سبحانه لم يرد يدي صفرًا بل كان ينـزل على قلبي السكينة، والأمل في أحلك الأحوال التي مرت علي، يمدني بالصبر، والتحمل، ويطمئن قلبي، ولو بالرؤية فله الحمد والمنة...
أذكر أنني بعد وفاة ابنتي كنت أراها في المنام تأتيني في كل شهر مرة تقريبًا فأحتضنها بين أضلاعي وألقمها ثديي، وأشعر وأنا في ذلك الوضع بالدفء والحنان، فاستيقظ من النوم وكأنها بين يدي.
وما أن حملت بأخيها حتى انقطعت رؤياها عني فسبحان الله العظيم على لطفه وكرمه.
الخاتمة
وما بالله –حاشا لله- أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأماني، فهم في حاجة إلى إعداد خاص، لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام.. وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات فلا يبقى صامدًا إلا أصلبها عودًا، وأقواها طبيعة، وأشهدها اتصالاً بالله وثقة فيما عنده من الحسنيين: النصر أو الأجر.
وإن العبد المؤمن يرجو ألا يتعرض لبلاء الله وامتحانه ويتطلع إلى عافيته ورحمته فإذا أصابه بلاء بعد هذا صبر له، وهو مدرك لما وراءه من حكمة، واستسلم لمشيئة الله، واثقًا من حكمته إلى رحمته وعافيته بعد الابتلاء.
فهرس
المقدمة 3
الزوج والزوجة 4
فلذات الأكباد 7
حفظ كتاب الله عز وجل 9
الأبناء 11
التحول الكبير 13
المصائب والمحن 16
الداعية 18
رحمة الله 24
غرفة الأحزان 26
تأملات في القصة 37
الخاتمة 40
فهرس 41